الأرياف “سقطت” من حسابات المعنيين منذ عقود.. وأهلها يعيشون حياة العصر الحجري…فمتى يعدل صناع القرار بوصلة الدعم نحو ثرواته المهملة ..؟!
رحاب الإبراهيم
حينما كنت أزور قريتي، “المهملة” كغيرها من أريافنا الجميلة، قبل جثوم الحرب اللعينة على معيشة السوريين، كنت أُمن النفس بلحظات هنيئة بصحبة الطبيعة الغناء، مع لقمة طيبة على أصولها بدون منكهات، وهو اعتبره ميزة للريف وأهله، يتوجب استثمارها بما يعود بالنفع على معيشة الريفيين والخزينة عند إقامة منشآت سياحية صغيرة تقدم مأكولاته ضمن أجواء قروية تحافظ على الموروث الشعبي، وهذا طبعاً لم يتحقق، وللأسف حصل العكس، حيث كنت ألحظ مستغربة رغبة الأهالي بالتشبه بعيشة المدن، لدرجة أزاحت جبنة “لافاش كيري” المستوردة مثلاً الجبنة البلدية عن الموائد، والسبب بكل بساطة عدم رغبة سكان الريف بالاشتغال بالزراعة ونقل الحياة المدنية إلى الارياف بعد إسقاطها من حسابات المعنيين.
هذا الخطأ الفادح لم يأت من فراغ قطعاً، فأريافنا تعرضت إلى اهمال كبير منذ عقود، وتحديداً ترك ثرواتها ومواردها البكر على “السبحانية” بلا أي خطة أو استثمار مدروس لخيرات أرضها وطبيعتها الخلابة، التي تضاهي أجمل مدن العالم، من دون فعل ملموس يمدها بالخدمات المطلوبة وإنشاء مشاريع خدمية وسياحية في كل قرية حسب مزاياها النسبية، أو أقله منح أهلها تسهيلات محفزة تشجعهم على النهوض بواقع قراهم، ما يحقق لهم دخلاً جيداً يغنيهم عن الوظيفة الحكومية براتبها الضحل ويحد من الهجرة صوب المدينة، في قلب لموازين اقتصادية معروفة، فالريف لطالما شكل خزان الأمن الغذائي، الذي يمد المدينة باحتياجاتها وليس العكس وخاصة أن أغلب المنتجات المصنعة في المدينة إذا لم تكن من خيرات الأرض ستكون مستوردة، الأمر الذي يفيد اقتصاد بلد آخر على حساب اقتصادنا ولقمة عيشنا.
وعموماَ هذا الخلل لا يتحمل مسؤوليته أهل الأرياف بقدر صناع القرار وأصحاب الكراسي في الحكومات المتعاقبة، بسبب إغفال التنمية الريفية، فمن المفروض منح المناطق الريفية اهتماماً أكبر واستثمار ثرواته المهملة ومنح المستثمرين مزايا وإعفاءات تشجعهم على ضخ أموالهم في مشاريع تحقق قيمة مضافة ينعكس خيرها على الريف والمدينة، والأهم مقدرتها على تثبيت سكان الأرياف في قراهم والمساهمة في تنميتها، وهذا ليس بمستحيل في ظل توافر البنية الأساسية من جمال الطبيعة وتوافر الموارد والإمكانات القابلة للاستثمار رغم كل التقصير والاهمال، حيث يمثل الريف بثرواته الخلاص المأمول من التأزيم الاقتصادي والمعيشي، وهذا يحتاج إلى قرار استراتيجي يضع الريف في سلم الأولويات والقطاع الزراعي في قلب الدعم، وإقصاء من يعتقد أن تنمية الريف ليست مهمة حالياً، فمن بوابة الريف يتحقق الاكتفاء الذاتي من الغذاء والكساء وليس من بوابة الاستيراد والتجارة، بالتالي لا بد من إدارة اقتصادية كفؤة تستثمر مكامن القوة في اقتصادنا وتضع آليات مجدية لتوفير سلع من إنتاج أرضنا تكفي الاحتياج المحلي مع تصنيع المتبقي بأيدي محلية بدل جلبها استيراداً أو تهريباً، والاتكاء على سياسة الجباية الطاردة أو إصدار قرارات تحصيل الأموال الترقيعية.
الاستثمار المجدي لأريافنا بمساحاتها الشاسعة يوجب لحظها في الخطط الاقتصادية أن وجدت، وتخصيص كتلة مالية كبيرة ضمن ميزانية المحافظات لتنمية الريف وليس اعتبار وجوده تحصيل حاصل وترك أهله لقدرهم والاعتماد عليهم للنهوض بواقعه المتردي، وهنا لا بد من ذكر أمر هام يتمثل بأن الحرب على قساوتها سجلت نقطة إيجابية بعودة الريفيين إلى أرضهم والاهتمام بزراعتها، حيث أدركوا متأخرين أن خيراتها هي المنقذ من واقع معيشي ضاغط لا يقوى راتب هزيل على مقاومته، فمتى سيدرك الفريق الاقتصادي هذه الحقيقة ويغيرون تلك النظرة الخاطئة بأن أهل القرى أبناء البطة السوداء أو ربما يستندون في اعتقادهم إلى قدرتهم على التحمل أكثر من اهل المدينة حتى يحرمون من أبسط مقومات الحياة، علماً أن الخلاص والانتقال إلى بر الأمان المعيشي يكمن بإنقاذ الريف من ظروف العصر الحجري وتصويب بوصلة الاهتمام والدعم صوب أرضه وثرواته، فأين أهل القرار من ذلك، ومتى تمنح الأرياف حصتها الكافية من الاهتمام الفعلي بعيداً عن الجولات والدعم الكلامي على نحو يقوم حال المعيشة ويقوي اقتصادنا المنهك من سياسة استيراد مدمرة تصب في مصلحة حيتان السوق وشركائهم الفاسدين.
طريقك الصحيح نحو الحقيقة