من مجانية التعليم إلى تعليم بالملايين، أبناؤنا مهددون بـ”التجهيل”!
خاص شبكة غلوبال الإعلامية – بقلم: شادية اسبر
في زمن الإقطاع والبرجوازية، كان “التجهيل” استراتيجية ينتهجها المتحكّمون برقاب العباد، كي لا يتعلم أبناء الطبقات الفقيرة، ويصلوا إلى معرفة حقوقهم، فينتفضوا بوجه من أطلقوا على أنفسهم “الأسياد”.
استراتيجيةٌ، ضربَ أركانها بناؤو سورية الحديثة سبعينيات القرن الماضي، ليبنوا على أنقاض الأفكار الرجعية مؤسساتٍ تعليمية مجانية وفق منهجية علمية، صنعت فكراً تنويرياً، وشملت جميع المراحل التعليمية، ولا تزال دول العالم العربي، وحتى دول كثيرة في العالم، تشهد لسورية كرائدة في مجالي مجانية التعليم والصحة، فأين نحن اليوم؟
على مدى سنوات طويلة، أثبتت مجانية التعليم في القطاع الحكومي، وبكل مراحله حتى الجامعية، فعاليتها بتخريج أجيال خلاقة في سوق العمل، كما في مجال البحث والإنجاز العلمي داخل سورية وخارجها، فلماذا نضيّع إرثاً جدواه الاستثمارية الوطنية رابحة بكل المقاييس؟
دخول القطاع الخاص إلى التعليم ليس بالأمر السيئ، شرط خضوعه لضوابط صارمة نظراً لحساسية هذا المجال، لكن “ترك الحبل على الغارب” لتصبح العملية التعليمية تجارية وحسب، هذا أخطر ما يمكن أن يواجه مستقبل البلاد.
أقساط المدارس الخاصة، عنوان يتصدر أحاديث الأهل مع كل مرحلة تعليمية لأبنائهم، فالترهل الذي أصاب مدارسنا العامة، إن كان على مستوى البنية التحتية أو الكوادر التدريسية والإدارية، أو ازدحام الصفوف بشكل لا يُطاق جرّاء خروج المئات منها عن الخدمة بفعل الحرب الإرهابية على سورية، دفع بغالبية الأهل للبحث عن مدارس خاصة، تحت وهم أنها الأفضل، أو بدافع “إراحة الضمير” تجاه الأبناء، وإن كان على حساب باقي تفاصيل متطلبات حياتهم، وهنا لسنا بصدد النظر في مدى صحة هذا التفكير أو خطئه، حيث للواقع وللنتائج حديث آخر، إلا أن الأرقام الفلكية لأقساط المدارس الخاصة بات يرهق المجتمع السوري، اقتصادياً ونفسياً.
طالعتنا وزارة التربيةــ التي على عاتقها مسؤولية الحفاظ على الهدف الأسمى للمؤسسات التربوية التعليميةــــ قبل أيام بتعميم لمديرياتها في المحافظات، يحدد الأقساط المدرسية السنوية للعام الدراسي 2022- 2023، وفق جدول مقسم إلى فئات أربع، بما يناسب المراحل التعليمية المختلفة.
أرقام تراوحت بين حد أدنى للفئة الرابعة (50 ألف) لرياض أطفال، وصولاً إلى حد أعلى للفئة الأولى (700 ألف) للمرحلة الثانوية.
أرقام يبررها أصحاب (المدارس والرياض)، الذين “صدّعوا” رأس الوزارة بطلباتهم الكثيرة لزيادة الأقساط مراعاة للأوضاع الاقتصادية، أوضاع تهدد أرباحهم الخيالية بأن تصبح واقعية.
لا نقارب هنا جدول “التربية” هذا مع دخل المواطن السوري، ومدى قدرة الأسرة على تسجيل أبنائها في مدارس خاصة، لأنه ببساطة سيخرج من يقول لنا، “يلي معو يدفع ويلي ما معو يسجل ولادوا بمدارس الحكومة”.
إلى هنا والحديث ما زال مقبولاً، على افتراض أن هذه الأرقام الواردة في جدول الوزارة هي الأقساط الفعلية التي يتقاضاها أرباب “التعليم الخاص”، لكن التعاميم شيء والحقيقة آخر، أو بالأصح، أسعار “التربية في واد”، و”المدارس الخاصة في قمة الجبل”.
تشير الأرقام المتداولة في مدارس دمشق وريفها، إلى أن أقساط معظم المدارس ورياض الأطفال الخاصة تتراوح بين مليون ومليوني ليرة سورية، والأدهى أنه حتى بين صفوف تلك المدارس، باتت هناك تصنيفات وطبقات، وبلغت أقساط “المخملية” منها ملايين عدة، هذا دون إغفال أن المدارس الخاصة دأبت سنوياً على زيادة أسعارها، وفي أحيان كثيرة يتم رفع القسط مع بداية كل فصل دراسي، ما يجبر الأهل على الدفع لإكمال السنة الدراسية على الأقل، حيث يتم تهديد الطلاب بالفصل منتصف العام في حالة التخلف عن الدفع!
مبالغ ربما نجد لها باباً لشرعنتها في تعميم وزارة التربية والتعليم المذكور آنفاً، باب تركه التعميم موارباً، ليدخل منه “أرباب التعليم الخاص” ويتحكموا بالأسعار على هواهم.
في بند منه تحت عنوان ((تحدد أجور الخدمات والميزات الإضافية بافتراض أن قيمة النقطة للفئة حسب المرحلة…)) جاء جدول حُددت فيه قيمة “النقطة الواحدة” لكل من: رياض الأطفال 15 ألف ليرة سورية، و20 ألفاً للتعليم الأساسي1، و25 ألفاً للتعليم الأساسي2، و30 ألفاً للمرحلة الثانوية، تاركاً عدد النقاط مفتوحاً إلى ما لانهاية، كما تاركاً تفسير معنى وماهية “النقطة” الممنوحة لكل فئة لــ “أبو العرّيف”، الذي يضعه سعر دخول مدرسته “ع الكيف”.
البند أدخل الأهالي في دوامة الافتراضات والتحليلات دون أن يخرج مسؤول تربوي يكشف المخفي، الجميع يعلم أن ما تتقاضاه المدارس ورياض الأطفال الخاصة، أضعاف مضاعفة لما حددته الوزارة، لكن الجميع يُطالب أيضاً الوزارة أن تحدد الوسيلة الملزمة لتطبيق تسعيرتها، على غرار استجابتها لمطالب أصحاب تلك المدارس، مراعاةً للأوضاع الاقتصادية، فهل من آلية للضبط؟ وهل سنشهد عقوبات رادعة للمخالفين؟ أم أن سوق التعليم كباقي الأسواق يخضع لاعتبارات اللاضبط؟ مع ملاحظة أن أطفالنا ويافعينا ليسوا سلعة للاستهلاك، بل هم أس وأساس المستقبل، والمسؤولية تشاركية على “الحكومي والخاص”.
“العملية التربوية في خطر”، ناقوس يجب مواصلة قرعه، حتى يصل مسامع المسؤولين المعنيين برفع سوية الحالة المزرية التي وصلت إليها مؤسساتنا التعليمية (حكومي وخاص)، فمن المسؤول عن فرز المجتمع إلى طبقتين تعليميتين؟ فرزـــ بالإضافة إلى آثاره الاقتصادية التي ترهق الأسرة السوريةـــــ آثاره الاجتماعية عالية الخطورة، فالطبقة “الفقيرة تعليمياً” هي السواد في مجتمع منهك اقتصادياً، بعد سنوات حرب على سورية، أرهقت مختلف القطاعات، وطالت بشكل ممنهج قطاع التعليم، فانفلات ظاهرة المدارس الخاصة من عقالها التربوي، ومسؤوليتها المجتمعية الوطنية الأخلاقية، وترك أصحابها يتاجرون بأبنائنا، جريمة بحق وطن يقاوم جاهداً أنواع سيوف الإرهاب المسلطة على مفاصله، فهل من أحد يقبل أن يكون شريكاً “ضمنياً” في جريمة إعادة “زمن التجهيل”؟! ونحن في زمن ثورات علمية تقنية عالمية، والاستثمار بالإنسان يأتي في أعلى سلم اهتمام الاقتصاديات، ولسورية باع طويلة في هذا المجال، فلا وقت للتهاون يا أصحاب القرار!
طريقك الصحيح نحو الحقيقة