خبير اقتصادي يقدمّ خطة للتخلي عن سياسة التقشف والانكماش
أدى النزاع السوري الممتد على مدى السنوات العشر الماضية وأكثر والمتمثل بالحرب والعقوبات إلى دمار البنى التحتية والأصول الإنتاجية الصناعية والزراعية، وإلى تدهور الوضع الاقتصادي والواقع المعيشي للبلد. فقد انخفض الناتج المحلي الإجمالي إلى ثلث ما كان عليه قبل الأزمة، وارتفعت معدلات البطالة والفقر وتدهور مؤشر الأمن الغذائي، وتم استنزاف رأس المال البشري بسبب تدني خدمات التعليم والصحة، وارتفعت الأسعار بمعدلات عالية وتدهور سعر صرف الليرة السورية وزاد عجز كل من الموازنة العامة للدولة والميزان التجاري.
كذلك أدت الحرب إلى انسلاخ ثلث الأراضي السورية عن سيطرة الدولة، وتحول ثلث سكانها إلى لاجئين في الدول المجاورة وفي أوروبا، كما أدت الحرب إلى وجود جيوش أجنبية محتلة على أرض الوطن، مع تولي هذه الدول ريادة البحث عن الحل السياسي بدلاً من السوريين أنفسهم، فضلاً عن زيادة كل من التطرف الديني وعدم الاستقرار في المنطقة.
وقد ازداد التدهور الاقتصادي والمعيشي في السنتين الأخيرتين لدى الإعلان عن قانون قيصر الأميركي وظهور آفة الكورونا، مترافقة مع الأزمة المالية المصرفية في لبنان والتي أعاقت تدفق السلع إلى السوق السورية عن طريقه.
وقد توالت المساعدات الدولية الإنسانية إلى سورية خلال الأزمة، وخاصة إلى المناطق خارج سيطرة الحكومة، لكن هذه المساعدات لم تكن كافية لتسديد الاحتياجات الضخمة للمتضررين في سورية ودول الجوار، كما عجزت الاتفاقيات الاقتصادية التي عقدتها الحكومة مع روسيا وإيران التي شملت معظم القطاعات الاقتصادية عن توفير السيولة اللازمة لتخفيف معاناة الاقتصاد والمواطنين، لكونها اتفاقيات طويلة الأجل، بخلاف الدعم النفطي من إيران ودعم القمح من روسيا، ودعمها الإنساني المتواضع.
الإجراءات الحكومية
وفي مواجهة هذا الواقع، وقعت الحكومة في عدة إشكاليات، أولها، سعيها لإخفاء حقيقة الوضع الاقتصادي الحقيقي من خلال حجب المؤشرات الاقتصادية لعدة سنوات، وإخفاء التقارير الاقتصادية المحايدة المعدة من سوريين ومن مؤسسات دولية، محاولة تخفيف وطأة الوضع القائم على المواطن وتوصيف الوضع بأنه أزمة وليس كارثة. ونتيجة لهذا التوصيف كثرت التصريحات المتفائلة واتخذت الحكومة إجراءات تقليدية لاحتواء التدهور الاقتصادي والمعيشي، وشكلت اللجان تلو اللجان بدلاً من إعداد خطة طوارئ، تركز على لب الكارثة والحوار حول أسبابها والبحث عن حلولها وتتشارك هي والشعب في تطبيقها. وكثرت تصريحات الحكومة حول زيادة الإنتاج على حين هي تعتمد سياسات انكماشية تؤثر سلباً في كل من العرض والطلب، ثم تتعثر في تنفيذها. وثاني الإشكاليات هو تخبط الدولة خلال السنوات العشر الماضية ما بين اعتمادها سياسات انكماشية تارة وسياسات توسعية تارة أخرى، مع ترجيح اعتمادها سياسات انكماشية معظم الوقت وإن كان ذلك على حساب النشاط الاقتصادي وخلق فرص العمل، وثالث الإشكاليات هو اعتمادها والبنك المركزي سياسات خاطئة في بداية الأزمة ومن دون مساءلة أدت إلى استنزاف الاحتياطي من العملات الأجنبية الذي بلغ 18 مليار دولار، ورابع الإشكاليات موافقتها على السماح بإقامة مشاريع خاصة طويلة الأجل ذات أولوية متدنية لا تفيد أياً من التعافي أو إعادة الإعمار، بل تفيد الأقوياء في السلطة والقطاع الخاص، مثل مشروع خلف الرازي المتضمن إقامة مجمع سكني/تجاري ضخم لأصحاب الدخول العالية، ومشاريع مصانع تجميع السيارات في مدينة حسياء الصناعية أراد أصحابها الالتفاف على الرسوم الجمركية العالية المفروضة على استيراد السيارات.
المقترح
لا تدخل هذه الورقة في مواضيع الحل السياسي والحوكمة الاقتصادية والتعافي المبكر وإعادة الإعمار وسائر أوجه القضية السورية، لكنها تركز على موضوع واحد هو اقتراحها تعديل مسار السياسات الاقتصادية الحالية من التقشف إلى التوسع، ضمن خطة طوارئ تضم مجموعة من الإجراءات والسياسات الاقتصادية والمؤسساتية المترابطة، بما فيها تحسين مناخ الاستثمار وترميم البنى التحتية ورفع مستوى المؤسسة الإنتاجية وإعادة وتحسين الأداء المصرفي وغيره من الإجراءات والسياسات بما سيتم تفصيله أدناه، مع إقامة خلية أزمة مشكلة من الحكومة والقطاع الخاص والمصارف والمجتمع المدني لمتابعة تطبيقها، ملتزمة بالشفافية الكاملة والتكامل الاقتصادي والاجتماعي.
ويحتاج نجاح الخطة المقترحة إلى مشاركة الجهات الأربع أعلاه على تطبيقها بالتضامن مع الجهاز الإداري للدولة والالتزام بكل مكوناتها. وقد تؤدي الخطة إلى ارتفاع الأسعار وانخفاض سعر الصرف بداية ولكنها ستؤدي إلى تحريك الاقتصاد وخلق فرص العمل وزيادة الإنتاج والتصدير بعد ذلك، ما سينعش كلاً من العرض والطلب، ويؤدي إلى تحسين الإطار الاقتصادي الكلي. وسيلعب انخفاض سعر العملة دوره في تقليص الاستيراد وزيادة التصدير إذا تم اعتماد السياسات المقترحة لتشجيع الإنتاج ومنه الإنتاج القابل للتصدير.
و يتكون المقترح من البنود التالية:
1- تحسين مناخ الاستثمار
أصدرت الحكومة في العام 2021 قانوناً جديداً للاستثمار (القانون رقم 18) ليحل محل القانون رقم 8 لعام 2007، ويمنح القانون الجديد المستثمرين حوافز وضمانات سخية، لكنه لا يلتفت إلى مناخ الاستثمار والبيئة الحاضنة له. وواقع الأمر أن الاستثمار لا يأتي بقانون، وإنما يأتي بالمناخ السياسي والاقتصادي والمؤسساتي المشجع على الاستثمار. وتتشكل أولويات تحسين مناخ الاستثمار بالقبض على البيروقراطية وتخفيض كلفة الأعمال وتحسين الإدارة الضريبية والجمركية ووضع أسس محددة لحل النزاعات التجارية على أساس حكم القانون، وإصلاح القضاء، وتوفير التمويل والبنى التحتية اللازمة وخاصة الكهرباء. وجميع هذه المعوقات قد تحددت منذ زمن طويل ولكن لم تتم مواجهتها، وأضيف لها مؤخراً العقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية وظهور أمراء الحرب على واجهة القطاع الخاص. كما تأتي الحاجة لرفع مستوى المؤسسة الإنتاجية في جميع القطاعات الاقتصادية، لتترافق مع تحسين مناخ الاستثمار، حيث أصبحت المؤسسة الإنتاجية الخاصة والعامة مترهلة بامتياز، وتفتقر التشغيل العلمي المنظم والمؤتمت، كما هناك الحاجة إلى السعي لاستعادة رأس المال المادي والبشري الذي هاجر خلال الأزمة من خلال التواصل المباشر مع أصحابه، وإقناعهم بالسياسة التوسعية المقترحة قولاً وعملاً.
2- ترميم البنى المادية التحتية
في ظل الدمار الذي تم خلال الأزمة لابد من أن تقوم الحكومة ضمن مواردها المالية المتاحة، بالحد الأدنى من ترميم البنى التحتية من كهرباء وماء ومواصلات برية وبحرية واتصالات في مختلف أنحاء البلاد على حساب ترشيد ما أمكن من الإنفاق العسكري، وذلك لتسهيل الاستثمار وتنشيط الأعمال وخلق فرص العمالة، إلى أن يأتي اليوم الذي تنطلق فيه عملية إعادة الإعمار الكبيرة. ومن الضروري التركيز على المناطق التي تعرضت للدمار أكثر من غيرها، والمناطق التي أدت إلى نزوح السكان منها تشجيعاً لعودتهم إليها.
كما أعتقد بوجوب تعديل قانون التشاركية (القانون رقم 5 لعام 2016) أو استبداله بقانون جديد، حيث تبقى التشاركية بالقانون حكراً على مشاريع البنى المادية التحتية كمشاريع الكهرباء والمواصلات والاتصالات والمياه، كما هي الحال في معظم قوانين التشاركية في العالم، من دون المشاريع التشاركية الربحية كالصناعة والزراعة والسياحة. ويعود استبعاد المشاريع الربحية من قوانين التشاركية إلى عدم وجود تضارب مصالح بين الطرفين في المشاريع الربحية، على حين هناك طرف يسعى إلى الربح وآخر يسعى إلى الخدمة العامة في مشاريع البنى التحتية، ما يتطلب قانوناً ينظم العلاقة ويوزع المخاطر بينهما. وسيرفع وجود قانون تشاركية سليم عبئاً ثقيلاً عن الدولة إذا تم تطبيقه بشفافية وتم منع الأقوياء من احتكار مشاريعه.
3- القطاعات الاقتصادية ذات الأولية
أما القطاعات ذات الأولوية لتحريك الاقتصاد فهي في اعتقادنا قطاعات الصناعة والزراعة، ومن ضمنها صناعات الري الحديث والطاقات المتجددة والأدوية واستصلاح الأراضي التي تم تدميرها خلال الأزمة. وعلى الرغم من أهمية قطاع النفط لكن ترميمه وإعادة بنائه يعتمد على إزالة العقوبات الاقتصادية وإعادة توحيد سورية سياسياً واقتصادياً، حيث توجد الموارد النفطية في المناطق خارج سيطرة الحكومة حالياً. ولكن نقترح أن يصدر مجلس الشعب قانوناً يلزم الحكومة بالتصريح عن جميع عقود النفط التي تعقدها سواء مع جهات داخلية أو خارجية واعتماد الشفافية في تفاصيلها.
وبالنسبة للري الحديث والطاقات المتجددة، هناك حاجة لتحفيز الاستثمار فيها من جهة، وتحفيز الطلب على خدماتها من المواطن ومن الصناعي والزراعي من جهة أخرى، كما على الدولة تعزيز المنافسة وتقليص الاحتكار في كل القطاعات الاقتصادية.
4- تشغيل الطاقات المعطلة
أدت الحرب والعقوبات الاقتصادية إلى ارتفاع معدلات الطاقات المعطلة في الاقتصاد السوري بسبب تدمير المباني والأراضي الزراعية والقيود المفروضة على الاستيراد، مضيفة بذلك إلى الطاقات التي كانت معطلة قبل الأزمة لأسباب عديدة. وتقع معظم الطاقات المعطلة في قطاعات الصناعة والزراعة والبناء والتشييد. ولا يحتاج تشغيل هذه الطاقات إلا القليل من الاستثمار ليوفر زيادات كبيرة في القيم المضافة. وعلى الدولة من جهتها تشغيل الطاقات المعطلة لديها وتقديم الحوافز للقطاع الخاص لترميم وتشغيل طاقاته المعطلة، كما على المصارف تمويل تشغيلها بتوجيه من الحكومة والمصرف المركزي.
5- تأجيل نقل معامل القابون
على الحكومة تأجيل قرار نقل معامل القابون إلى مدينة عدرا الصناعية لمدة 7 سنوات على الأقل، فمنطقة القابون غنية بالمعامل مختلفة الأصناف منذ عشرات السنين وعرقلة عملها الآن يؤثر في نشاطها الصناعي الذي تريده اليوم وفي كل ما يخلقه من فرص العمالة.
6- تأخير مشروع خلف الرازي وإلغاء مشروع باسيليا سيتي بالكامل
صدر في العام 2012 المرسوم التشريعي رقم 66 الذي قضى بإحداث منطقتين تنظيميتين في نطاق محافظة دمشق، الأولى خلف الرازي بمساحة 214.9 هكتاراً سميت فيما بعد ماروتا سيتي والثانية جنوب المتحلق الجنوبي(وصولاً إلى القدم وعسالي وشارع الثلاثين) بمساحة 897 هكتاراً وسميت فيما بعد باسيليا سيتي. وتضمن مشروع خلف الرازي إقامة مجمع سكني تجاري لأصحاب الدخول العالية وبدأ العمل به منذ العام 2013. كذلك صدر في العام 2018 القانون رقم 10 الذي عدل بعض أحكام المرسوم 66 وقضى بجواز إحداث منطقة تنظيمية أو أكثر ضمن المخطط التنظيمي العام للوحدات الإدارية.
ونقترح إرجاء ما أمكن من مشاريع خلف الرازي الذي أصبح حقيقة واقعة والإلغاء الكامل لمشروع باسيليا سيتي البالغة مساحته 897 هكتاراً، وذلك لتوجيه المال العام والخاص لمشاريع أكثر إنتاجية ولحماية الحوض المائي لمدينة دمشق الذي لا يمكن أن يستوعب الحجم الكبير من السكان والأعمال التي من المقترح أن تستوعبها المدينتان المقترحتان أعلاه. كذلك نقترح إلغاء القانون رقم 10 لعام 2018 لما ظهرت حوله من انتقادات.
7- تشجيع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة
تم في السنوات الخمس الأخيرة وضع الإطار القانوني للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تشكل 80-90 بالمئة من النشاط الاقتصادي في سورية من خلال عدد من القوانين والإجراءات كإقامة هيئة تشجيع الإنتاج والتصدير ومؤسسة ضمان مخاطر القروض للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، ولم يبق إلا تفعيلها بالتلازم مع تحسين مناخ الاستثمار، وسيؤدي ذلك إلى تحريك النشاط الاقتصادي الرسمي والابتعاد عن اقتصاد الحرب. ويأتي تفعيل مؤسسة ضمان مخاطر القروض التي تم تشكيلها في العام 2021 والتي لم تبدأ العمل بعد في المقام الأول. وقد يكون من المفيد السعي لأخذ قرض ميسر من الإمارات العربية المتحدة أو غيرها لدعم المشروعات المتوسطة والصغيرة يوزع على عدد من المصارف.
8- السياسات المالية والنقدية والتجارية
يحتاج النشاط الاقتصادي إلى سياسات مالية ونقدية وتجارية سليمة، وهي سياسات تقوم بها جهات مختلفة في الدولة، ما يتطلب أولاً الشفافية فيها وثانياً التنسيق بينها، وكل من الشفافية والتنسيق ضعيف في الوقت الحاضر، وخاصة بالنسبة للشفافية في الموازنة العامة للدولة سواء من جهة مواردها أم من جهة إنفاقها الجاري والاستثماري أو من جهة طرق تمويلهما وتغطية عجزهما. وفي غياب الشفافية والتنسيق لا يمكن للجهات الحكومية المختلفة وللاختصاصيين المساهمة في إيجاد الحلول العملية لهذه السياسات في مواجهة تراجع الاقتصاد الحقيقي وتدهور إطاره الاقتصادي الكلي.
أما بالنسبة للتنسيق بين سياسات الاقتصاد الكلي، فمن الأفضل أن تتولى السياسات المالية والتجارية تحفيز الإنتاج والاستثمار، وتتولى السياسات النقدية لجم التبعيات التضخمية الناتجة عن السياسة التوسعية المالية والتجارية. وحتى تستطيع وزارة المالية اعتماد سياسة مالية فعّالة، عليها أولاً تعزيز وضعها المالي، بعدما خسرت الموارد النفطية بسبب الحرب والعقوبات وخسرت الموارد الضريبية بسبب الحرب، وذلك من خلال اتخاذها إجراءات صارمة من ناحية الإيرادات تتضمن تقليص التهرب الضريبي، وإخضاع أمراء الحرب للضريبة المباشرة، ومكافحة التهريب، والاستمرار بمراجعة الإيجارات التي تتقاضاها عن أملاكها، ومن ناحية الإنفاق عليها إجراء مراجعة شاملة ومعمقة للإنفاق الجاري والاستثماري بغرض وقف الهدر والفساد وإخراج جميع الأجور الخلبية منهما، وكذلك زيادة الإنفاق الاستثماري، وهو المحفز الأساسي لزيادة الطلب، وتقليص استنزاف القطاع العام الصناعي لموارد الدولة المالية.
وبالنسبة لتغطية عجز الموازنة ينبغي الاعتماد الأكبر على إصدار سندات الخزينة وشهادات الإيداع بالعملات المحلية والأجنبية بدلاً من التمويل بالعجز وذلك للجم التضخم. أما بالنسبة لوزارة الاقتصاد فعليها إلغاء جميع الرسوم الجمركية وغير الجمركية على مدخلات الإنتاج الصناعي والزراعي، والاستمرار المؤقت لحماية الصناعة، ولكن من خلال رفع معدلات الرسوم الجمركية بدلاً من المنع الكمي، كما عليها مراجعة كل صناديق الدعم الاقتصادي والاستهلاكي والاجتماعي بغية إلغاء بعضها ودمج بعضها الآخر وتحسين أدائها.
9- تفعيل القطاع المصرفي
لابد من أن يلعب القطاع المصرفي دوراً أساسياً في تحريك الاقتصاد، رغم تعرضه للعديد من الصدمات خلال الأزمة، بما فيه تأثره بالعقوبات الاقتصادية التي تم فرضها على سورية، ما زاد من ديونها المتعثرة ومن مخاطر التمويل والتشغيل لديها، فأصبحت أكثر حرصاً على التسليف كما أصبحت تعاني فائضاً من السيولة بسبب ذلك وبسبب تقلص الطلب على التسليف. ونقترح حل مشكلة الديون المتعثرة بالسرعة القصوى بمصالحات عادلة مع أصحابها من خلال تفعيل القانونين 19 و21 للعام 2014، وتفعيل مؤسسة ضمان مخاطر القروض لتشجيع المصارف على التمويل، والعمل على استعادة رؤوس الأموال التي خرجت خلال الأزمة. وبالنسبة لمصارف القطاع العام عليها هي والدولة وقف التمويل لمؤسسات القطاع العام الخاسرة وتوجيه هذه الأموال بدلاً من ذلك إلى المشاريع المنتجة والرابحة.
وبالنسبة للمصرف المركزي نقترح:
– أن يجعل القطاع المصرفي داعماً لأولويات الاقتصاد الوطني من خلال إلزامه المصارف بتخصيص نسب معينة من مواردها لتمويل الصناعة والزراعة والتصدير والسكن الرخيص والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة على حساب التمويل التجاري.
– أن يدعم فوائد المصارف بالنسبة للقروض المقدمة للمشاريع ذات الأولوية.
– تعزيز الحوكمة المالية المصرفية في القطاع المصرفي لما في هذا القطاع من مخاطر كبيرة تمس الاقتصاد والمواطن، ومن ضمن الحوكمة المطلوبة الإصرار على الخبرة في اختيار الإدارات التنفيذية وأعضاء مجالس إدارة المصارف، وتدقيق المصرف المركزي لتعامل الإدارات التنفيذية مع مخاطر التسليف والتشغيل، والتأكد من الاستخدام السليم لقروضها.
– السعي لاستقلالية السياسة النقدية من التدخلات الحكومية وتدخلات الأقوياء من القطاع الخاص.
– المزيد من استخدام كل من سعر الفائدة وسندات الخزينة وشهادات الإيداع في السياسة النقدية لضبط سعر الصرف، ووضع سقوف صارمة على تمويل المصرف المركزي للدولة وتمويل المصارف لها، استفادة من التجربة اللبنانية.
– تفعيل قانون التمويل التأجيري (القانون رقم 88) وقانون التمويل العقاري (القانون رقم 12) اللذين صدرا بين الأعوام 2010 و2012 لتوفير التمويل طويل الأجل في السوق لحاجة القطاع المصرفي لمثل هذا التمويل الآن وفي مرحلة إعادة الإعمار، فالقطاع المصرفي الحالي بشقيه العام والخاص يضم مصارف تجارية تقدم تمويلاً قصير الأجل وغلب على عملها تمويل التجارة، وخاصة بالنسبة لمصارف القطاع الخاص.
ومن أجل القدرة على اعتماد السياسات أعلاه، لابد من تعزيز قدرات المصرف المركزي المعرفية والإدارية، سواء بالنسبة للسياسات النقدية وسياسة سعر الصرف، أم بالنسبة للإشراف على القطاع المصرفي ومراقبته ومحاسبته، وخاصة حين تضاف إليه مصارف التمويل طويل الأجل.
10- تصحيح مسار الإصلاح الإداري
ساهمت الحرب في تفتت مؤسسات الدولة وزيادة ترهلها، وزاد تدخل كل من الأقوياء في السلطة وفي القطاع الخاص في قراراتها، ما زاد من ضرورة الإصلاح الإداري الذي كان قد بدأ قبل الأحداث الحالية وحقق نجاحات ولكن متواضعة.
وتولي الحكومة الإصلاح الإداري اهتماماً خاصاً، لكن الإصلاح الإداري يجب ألا يهدف إلى ضمان الأداء الوظيفي الفعّال من خلال تحديد الصلاحيات والمحاسبة والمساءلة فقط، بل يجب أن يركز أيضاً على إدخال مفاهيم سيادة القانون والحوكمة الاقتصادية والإدارية ومبادئ الشفافية والحكم الرشيد إلى مؤسسات الدولة، كما يجب أن يركز على إعادة توحيد هذه المؤسسات والحد من تدخلات أمراء الحرب في شؤونها، وأن يتفهم أهداف السياسة التوسعية المقترحة ويعمل على تحقيقها ويركز على زيادة قدرات مؤسسات الدولة المعرفية سواء في المركز أم على المستوى المحلي وإعطاء مؤسسات الدولة المزيد من الصلاحيات في اتخاذ القرار النهائي، والانتهاء من مقولة «العودة إلى الجهات الوصائية».
11- تعزيز عمل المدن الصناعية
لابد من إعادة بناء ما تهدم من المدن الصناعية الأربع ومن المصانع بداخلها، وتعزيز عمل هذه المدن، مع إعطاء إداراتها المزيد من الاستقلالية الإدارية والمالية، إضافة إلى نقل مرجعيتها من وزارة الإدارة المحلية إلى وزارة الصناعة، فهي الوزارة المسؤولة عن القطاع الصناعي بشقيه العام والخاص، حتى تكون هذه المدن جزءاً من إستراتيجية الصناعة وليست جزءاً من تخطيط المدن.
12- إقامة «المناطق الصناعية الخاصة» والتركيز على المناطق المختصة بالتصدير.
من الضروري إقامة مناطق صناعية/ اقتصادية خاصة بالتشارك بين الدولة والقطاع الخاص حيث تقوم الدولة بوضع الضوابط لهذه المشاركة وتقدم الأرض مجاناً أو بسعر رمزي، وتتعهد بإيصال البنى التحتية اللازمة لأرض المشروع، على حين يقدم القطاع الخاص الاستثمار والإدارة بالكامل. ويفضل أن تركز بعض هذه المناطق على الصناعات الزراعية القابلة للتصدير، وتركز مناطق أخرى على صناعات الري الحديث والطاقات المتجددة. وقد تكون منطقة الغاب والساحل السوري أفضل المواقع لمناطق تصنيع الصادرات (export processing zones).
والجدير بالذكر أن قانون الاستثمار الجديد (القانون رقم 18 لعام 2021) سمح للقطاعين الخاص والعام بالاستثمار في إقامة مناطق اقتصادية تخصصية وفق المادة 44، وسمح بإقامة مناطق اقتصادية تخصصية بملكية خاصة وفق المادة 48 منه، ولكنه لم يتضمن الصيغة التشاركية المشار إليها أعلاه، وهي الصيغة التي أثبتت نجاحها في العالم. ولكن حتى لو أن القانون لم يشر إلى هذه الصيغة لا نعتقد أنه سيكون هناك مانع من اعتمادها إذا وجد المستثمر الخاص.
13- تشجيع القدرات المحلية الإدارية والإنتاجية وإجراء مصالحات على المستوى المحلي.
يشكل تشجيع القدرات المحلية الإنتاجية وتعزيز المصالحات الوطنية عاملاً أساسياً في تزايد النشاط الإنتاجي، كما وأن النشاط الإنتاجي يساعد بحد ذاته على تعزيز المصالحات الوطنية، لذلك من الضروري العمل على تقوية القطاع الخاص المحلي وإجراء ما أمكن من المصالحات في مختلف المناطق، ومن الأفضل أن يقوم بها كل من الوجهاء والشباب في المجتمعات المحلية بدعم من مؤسسات الدولة. ومن النشاطات التي تعمق المصالحات المحلية إقامة نشاطات رياضية وترفيهية مشتركة وترميم بعض المرافق العامة البسيطة من أهل المنطقة أنفسهم.
14-توحيد سورية اقتصادياً
يشكل انفصال شمال شرقي سورية الحالي عن بقية سورية خسارة كبيرة للاقتصاد الوطني حاضراً ومستقبلاً، فهي المناطق الغنية بالموارد الزراعية والنفطية، ولكنها المناطق الفقيرة برؤوس الأموال المادية والبشرية، كما أن انفصالها قد فكك سلاسل المدخلات والإنتاج والعمالة وعرقل العلاقات الاقتصادية داخل البلد الواحد. وسيشكل إعادة شمال شرقي سورية إلى حضن الوطن مع فتح المعابر الحدودية الرئيسية دفعاً قوياً للاقتصاد الوطني وسيحرك عمليتي الإنتاج والتصدير فيه شريطة عدم إهمال المناطق الشرقية مجدداً.
لكن عودة شمالي شرق سورية إلى حضن الوطن تتطلب إجراء مصالحة مع الإدارة الذاتية هناك المسيطر عليها من القوى الكردية المدعومة أميركياً، ويمكن أن تتضمن المصالحة منح الإدارة الذاتية بعض الاستقلالية الإدارية وضمان حمايتها من الأتراك، مقابل قبولها التخلي عن حقول النفط ودمج ميليشياتها بالجيش العربي السوري، مع إخضاع إدارتها الذاتية للقانون رقم 107 لعام 2011. وقد تتطلب المصالحة وساطة روسية، وكذلك منح روسيا نفسها ضمانات أمنية للقوى الكردية، وهي التي لها علاقات جيدة معهم على الرغم من علاقاتهم السياسة والعسكرية مع الولايات المتحدة الأميركية. ولكن واقع الأمر إن أي اتفاق مع الإدارة الذاتية الكردية يحتاج أيضاً إلى موافقة أميركية وتركية، ولكن على حين الأولى بدأت في ظل إدارتها الجديدة تخفف من معارضتها لمثل هذا الاتفاق، تتشدد الثانية بمعارضة الاتفاق. وفي المقابل تخشى الإدارة الذاتية الكردية اليوم من تخلي الولايات المتحدة عنها بعد خروج الأخيرة من أفغانستان، وبالتالي قد تكون أكثر مرونة في مفاوضاتها مع الحكومة.
15- قضايا أساسية معلقة
هناك قضيتان أساسيتان يشكل حلهما دفعاً جذرياً للنشاط الاقتصادي ولزيادة الإنتاج والتصدير، لكن حلهما غير ممكن في الوقت الحاضر. وقد كانت هاتان القضيتان اللتان من الإرث الاشتراكي عصيتين عن الإصلاح في السابق وأصبحتا أكثر عصية في ظل الأزمة الراهنة، وهما قضيتا القطاع العام الصناعي والحيازات الزراعية الصغيرة، فالأول ومنذ عشرات السنين لا يقدم قيمة مضافة تعادل الاستثمارات التي تم ضخها فيه، على حين يستمر باستنزاف مالية الدولة، والثاني هو نتيجة السقوف المنخفضة التي وضعتها قوانين الإصلاح الزراعي على الملكيات الزراعية الخاصة، والتي تقلصت مساحاتها مع الزمن بسبب التوريث، ما جعل هذه الحيازات من الحجم الذي يشكل عائقاً أمام إدخال المكننة الزراعية والتطوير التكنولوجي وإدخال أساليب الري الحديث.
وقد يكون من المستحيل معالجة هاتين المشكلتين خلال السنوات القريبة القادمة بسبب معارضتها عقائدياً من البعض، وبسبب تبعاتها الاجتماعية السلبية على المدى القصير، لكن معالجتها تصبح ضرورة قصوى خلال مرحلة إعادة الإعمار بسبب نتائجها الإيجابية الكبيرة، لكن الأمر يحتاج لقرار سياسي حاسم على أعلى المستويات في كلتا الحالتين.
أخيراً، نعتقد أن اعتماد السياسات التوسعية أعلاه يعزز الإنتاج والاستثمار، وهي السبيل لتحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي، وليس السياسات التقشفية ورفع الدعم عن السلع الأساسية التي يعيش عليها المواطن والتي ترفع الأسعار وتقلص الطلب. لكن هذه السياسات التوسعية لا يمكن أن تنجح إلا بالالتزام بها كاملة وبتكاتف كل من الدولة والقطاع الخاص والمصارف والمجتمع المدني في تنفيذها. وللمساعدة في التنفيذ يجب وضع خطة تنفيذية تجيب عن السؤال «كيف» لتنفيذ كل واحد من هذه المقترحات وتحدد المسؤوليات والصلاحيات في تنفيذ كل بند منها. وستفشل الخطة حتماً إذا تدخل أمراء الحرب في قراراتها وتدخلت المصالح البيروقراطية في الدولة في عرقلتها وتم التراجع عن الصعب منها. ولابد من التذكير بأن أول الغيث هو اعتراف الدولة بحقيقة المشكلة الاقتصادية وحجمها وتبعاتها المتعددة ورغبتها في حلها وفي إبعاد تدخلات «المنتفعين» عنها.
وإذا نظرنا إلى أبعد من السنوات الثلاث القادمة فلا حل للمشكلة الاقتصادية الكارثية في سورية إلا بالحل السياسي المتوافق عليه من السوريين أنفسهم ومن الجهات الخارجية المتدخلة في الحرب السورية. وسيفتح الحل السياسي الباب أمام توحيد سورية سياسياً واقتصادياً وإزالة العقوبات الجائرة عنها، وبالتالي تدعيم الحراك الاقتصادي وبدء تدفق المساعدات الخارجية التنموية إليها وانطلاق عملية إعادة الإعمار الكبيرة.
طريقك الصحيح نحو الحقيقة